استشهاد 238 صحفياً في عامين.. هل تحولت غزة إلى مقبرة الإعلاميين؟

استشهاد 238 صحفياً في عامين.. هل تحولت غزة إلى مقبرة الإعلاميين؟
تشييع جثمان أحد الصحفيين في غزة - أرشيف

في مشهد جديد من مشاهد الحرب الطويلة على غزة، قُتل خمسة من صحفيي قناة الجزيرة، بينهم المراسل أنس جمال الشريف، في غارة إسرائيلية استهدفت خيمة مخصصة للإعلاميين قرب مجمع الشفاء الطبي شمال القطاع. الهجوم، الذي أقر به الجيش الإسرائيلي، جاء وسط تصاعد العمليات العسكرية التي تدخل شهرها الثاني والعشرين، وأثار ردود فعل غاضبة من مؤسسات إعلامية وحقوقية حول العالم.

وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي بقطاع غزة فجر الاثنين، ارتفاع عدد الصحفيين الذين استشهدوا في القطاع منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023، إلى 238 صحفياً.

ويأتي مقتل الشريف وزملائه، بعد يومين من إقرار الحكومة الإسرائيلية، فجر الجمعة، خطة لاحتلال مدينة غزة بالكامل. 

الجيش الإسرائيلي يبرر والجزيرة ترد

اعترف الجيش الإسرائيلي صراحة باستهداف الشريف، واصفاً إياه بأنه "إرهابي" و"قائد خلية في حماس"، متهماً إياه بتنفيذ هجمات صاروخية، وفي المقابل، عدت شبكة الجزيرة أن ما جرى "اغتيال مدبر" يهدف لإسكات الأصوات المستقلة قبل تنفيذ خطة إسرائيلية للسيطرة على مدينة غزة، واصفة العملية بأنها "هجوم سافر ومتعمد على حرية الصحافة".

 أنس الشريف مراسل على خط النار

وُلد أنس الشريف عام 1996 في مخيم جباليا، ونشأ حاملاً حلم العودة إلى بلدته الأصلية عسقلان المحتلة، وخلال الحرب، أصبح من أبرز الوجوه التي توثق معاناة سكان القطاع، وقدم تقارير يومية من قلب الخطر، حتى إن مشاهد تأثره على الهواء في يوليو الماضي أثناء حديثه عن الجوع في غزة انتشرت على نطاق واسع.

وصيته التي كتبها في أبريل 2025، ونُشرت بعد استشهاده، حملت رسائل شخصية وإنسانية عميقة، إذ قال: "إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي"، ودعا العالم إلى عدم الصمت أمام المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام ونصف العام.

بحسب "مراسلون بلا حدود"، استشهد أكثر من 200 صحفي في غزة منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، ما يجعلها واحدة من أخطر النزاعات على الإعلاميين في التاريخ الحديث، وأعربت لجنة حماية الصحفيين عن "صدمتها" بسبب مقتل الشريف، محذرة من النمط المتكرر لوصف الصحفيين بأنهم مسلحون من دون أدلة، وهو ما يثير تساؤلات حول احترام إسرائيل للقانون الدولي الإنساني.

ردود أفعال دولية وأممية

القانون الدولي الإنساني، وتحديداً المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، يضمن حماية الصحفيين المدنيين في مناطق النزاع، ويمنع استهدافهم ما لم يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية، منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" شددت على أن قتل الصحفيين عمداً قد يرقى إلى جريمة حرب، إذا ثبت غياب أي مبرر عسكري مباشر.

الأمم المتحدة، عبر مساعد أمينها العام ميروسلاف جينكا، حذرت أمام مجلس الأمن من أن العمليات الإسرائيلية الجديدة في غزة "قد تؤدي إلى كارثة جديدة"، مشيرة إلى أن استمرار استهداف الصحفيين والمرافق المدنية يقوض أي جهود لحماية المدنيين، كما طالبت نقابة الصحفيين الفلسطينيين بفتح تحقيق دولي مستقل، معتبرة الحادث "جريمة إسرائيلية بشعة" تندرج ضمن سياسة ممنهجة لإخفاء الحقائق.

الإعلام تحت الحصار

منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، منعت إسرائيل دخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة إلا عبر مرافقة الجيش، ما جعل الصحفيين الفلسطينيين المصدر الأساسي للمعلومات للعالم الخارجي، هذا الواقع جعلهم أكثر عرضة للخطر، حيث يعملون في بيئة مغلقة ومحاصرة، في ظل انقطاع الاتصالات أحياناً وانهيار البنية التحتية.

الهجوم على طاقم الجزيرة جاء بعد يومين من موافقة المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر على خطة للسيطرة الكاملة على مدينة غزة والمخيمات الوسطى. الخطة، التي وصفها محللون بأنها "تصعيد نوعي"، أثارت مخاوف من موجة نزوح جديدة، وهو ما أكده جينكا في تحذيره من تداعيات إقليمية أوسع.

الكلفة البشرية للحرب

وفق وزارة الصحة في غزة، استشهد منذ بدء الحرب 61,430 شخصاً، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف النساء والأطفال، في حين تتحدث الأمم المتحدة عن أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم حالياً، تشمل خطر المجاعة على أكثر من مليوني شخص في القطاع، وفي إسرائيل، أسفر هجوم 7 أكتوبر عن مقتل 1,219 شخصاً، بحسب الأرقام الرسمية.

اغتيال أنس الشريف لم يكن مجرد فقدان لصحفي، بل إغلاق لصوت كان ينقل نبض الشارع الفلسطيني إلى العالم، رسالته الأخيرة، التي أوصى بنشرها بعد استشهاده، تتحول اليوم إلى وثيقة إنسانية وسياسية، تضع المجتمع الدولي أمام سؤال مباشر: إذا كان الصحفي، المحمي قانونياً، يُقتل على الهواء، فمن يحمي المدنيين العاديين؟

 استهداف الإعلام في النزاعات

استهداف الصحفيين ليس جديداً في النزاعات المسلحة، لكنه في الحالة الفلسطينية-الإسرائيلية يكتسب أبعاداً إضافية، منذ الانتفاضة الأولى (1987-1993)، قُتل عشرات الإعلاميين، وتعرضت مكاتب قنوات دولية للقصف والمداهمة، ففي مايو 2021، دُمّر برج الجلاء في غزة، الذي كان يضم مكاتب وكالة "أسوشيتد برس" والجزيرة، في ضربة إسرائيلية أثارت موجة تنديد عالمية.

بهذه الحادثة، يتجدد النقاش حول ما إذا كان قتل الصحفيين في غزة استثناءً فردياً أم جزءاً من سياسة ممنهجة لإسكات الشهود، وبقدر ما يمثل رحيل أنس الشريف خسارة مهنية وإنسانية، فإنه يكشف عن تحدٍ أخلاقي وقانوني كبير للمجتمع الدولي، الذي يجد نفسه أمام معضلة: إما الدفاع الجاد عن حرية الصحافة، أو الاكتفاء ببيانات الإدانة التي لا توقف الحرب ولا تحمي أصحاب الكاميرات من أن يصبحوا أهدافاً.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية